لطلاب ماجستير الساميات في جامعة حلب 2010 - 2011
أهلاً بكم في هذا المنتدى الفاشل

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

لطلاب ماجستير الساميات في جامعة حلب 2010 - 2011
أهلاً بكم في هذا المنتدى الفاشل
لطلاب ماجستير الساميات في جامعة حلب 2010 - 2011
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

ماري الحاضرة العربيّة القديمة على الفرات الأوسط ـــ أحمد شكري

اذهب الى الأسفل

ماري الحاضرة العربيّة القديمة على الفرات الأوسط ـــ أحمد شكري Empty ماري الحاضرة العربيّة القديمة على الفرات الأوسط ـــ أحمد شكري

مُساهمة من طرف محمد مرجى حريري الجمعة 24 ديسمبر 2010 - 18:54

ملف: ماري الحاضرة العربيّة القديمة على الفرات الأوسط ـــ أحمد شكري



بعد سبات طويل امتد أكثر من ألفي سنة، استفاقت (ماري) الحاضرة العربية القديمة على الضفة اليمنى للفرات، ومن أعماق تراب (تل حريري) حيث كانت تستقر بين أطواء الظلمة والدمار فتدفقت مقادير مذهلة من المعلومات والتحف والوثائق، وبرزت مساحات كبيرة من المعالم المشعة بالوظائف الروحية والسياسية والعسكرية، وبعثت المكتشفات أضواء ساطعة على مرحلة حافلة من تاريخ الشرق الأدنى القديم وأحداثه، قبل نحو أربعين أو خمسين قرناً.



ويصف الأستاذ أندريه بارو مكتشف (ماري) نفسه، نتائج التنقيب في هذا الموقع بأنه (أزاح الستار عن كنوز مذهلة حان الوقت لتحديد أطرها) وأكد (أن الحقيقة فاقت دائماً الخيال في ماري) حيث كانت (هناك نيران ساطعة هائلة تتوهج قبل أربعة بل خمسة آلاف سنة على ضفاف الفرات الأوسط).



في الثلث الأول من القرن العشرين كانت (ماري) مدينة مجهولة ورد ذكرها على تمثال موجود في المتحف البريطاني نقش عليه اسم (ايكو شمس- ملك ماري)، كما ذكرت أيضاً على تمثالين ومنحوتة في متحف استانبول، إضافة إلى أن وثائق حمورابي ملك بابل تتحدث عن انتصاره على (ماري) ودمارها على يديه.



وكان العلماء الأثريون يبحثون عن ماري في شريط يمتد على الضفة اليمنى لنهر الفرات بين دير الزور وهيت طوله ثلاثمائة كيلومتر، ولم يلفت أنظارهم في البداية (تل حريري) لأنه كان أقل ارتفاعاً من التلال المنتشرة في منطقة ما بين النهرين من الشمال إلى الجنوب، أو من الجزيرة إلى شط العرب، ولبعد موقعه عن مجرى النهر قليلاً.



وفي عام 1933 وقع حدث كان مفتاح الاكتشاف المدوي لماري، فقد عثر بعض العربان وهم يدفنون أحد موتاهم في تل حريري على تمثال دون رأس، يمثل شخصاً يضم يديه على صدره، وجذعه عار، بينما يكتسي القسم الأسفل من جسمه بما يشبه الحراشف، وقد بلغ وزن التمثال ثلاثمائة كيلوغرام.



وبعد الإبلاغ عن هذا الحادث بنحو أربعة أشهر فقط كانت بعثة للتنقيب الأثري موفدة من متحف اللوفر برئاسة الأستاذ (أندريه بارو) تبدأ حفائرها في تل حريري. وبذلك افتتح أول موسم للتنقيب الأثري في هذا التل الواقع على بعد اثني عشر كيلومتراً إلى الشمال الغربي من بلدة البوكمال.



ولم يكن ممكناً الجزم بهوية التل قبل العثور على معلم يحمل كتابات محفورة، أو على لوحة فيها نص، وهذا ما حدث فعلاً منذ بداية الموسم الأول حيث عثرت البعثة على ثلاثة تماثيل أحدها من الحجر الحواري الأبيض نقش عليه (لا مجى ماري) ملك ماري، والثاني من الالباستر نقش عليه اسم الوكيل ايبيه ايل، والثالث من الرخام الوردي نقش عليه اسم الطحان أيدي ناروم، وبذلك تأكد أن تل حريري يضم موقع بقايا (ماري) وقد عثر على التماثيل الثلاثة في معبد عشتار حيث كان الرجال الثلاثة يقدمون نذورهم للآلهة، فكانت لأشخاصهم هذه التماثيل.



ومنذ ذلك الوقت توالت سلسلة من مواسم التنقيب في تل حريري لم تكتمل حتى اليوم، ولكنها كشفت عما وصفه (بارو) بأنه (كنوز مذهلة) احتوت على اللوحات المسمارية والتماثيل والقرابين والمنحوتات المزخرفة والرسوم الجدارية وودائع التأسيس والجرار والأختام والأدوات البرونزية، هذا عدا ما كشفت عنه الحفائر من معالم القصور والمعابد والهياكل والمنشآت الدينية والرسمية والسكنية. وقد وصفت هذه المنشآت بأن (تصاميمها) تعبر عن وجود تنظيم مدني لا يمكن إلا أن يكون من صنع سلطة قوية تشرف على أجهزة فعالة وقدرات فنية متمرسة.



ولقد أجرت بعثة (أندريه بارو) ستة مواسم تنقيب قبل الحرب العالمية الثانية، وأربعة عشر موسماً بعد الحرب كان آخرها في عام 1972، وكانت حصيلة المواسم العشرين لائحة ضخمة من المكتشفات ألقت الضوء على عدد من العهود والحضارات التي تعاقبت على (ماري) طيلة ما يقارب ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد.



يبلغ طول تل حريري ألف متر وعرضه ستمائة متر ويقارب ارتفاعه فوق مستوى السهول المجاورة خمسة عشر متراً، وعلى الرغم من مواسم التنقيب المتوالية لا يزال الجانب الأكبر من التل محجوباً بأطباق التراب يحتفظ بأسراره، في انتظار إجراء أسبار عميقة وواسعة، بغية الوصول إلى الأرض البكر، والعائق الذي كان يحول دون ذلك هو ضمان حماية المعالم المكتشفة من الأعاصير والرياح والجليد وهو الأمر الملح في هذه المرحلة. وقد ظهر أثر هذه العوامل واضحاً على الجدران والأرضيات بعد أن كانت محفوظة تحت الثرى مئات السنين.



ويبدو الآن أن أهم معالم ماري هو قصورها الملكية التي تبرز قوة السلطة من الوجهتين الاجتماعية والسياسية. كما تبرز قدرتها على فرض أنظمتها وقوانينها، وقد اكتشف قصر (زيمري ليم) ملك ماري في الموسم الثاني للتنقيب عام 1934، وتبين أنه يعود إلى الألف الثاني قبل الميلاد. وقد عثر فيه على مجموعة تماثيل أهمها تمثال الحاكم (ايشتوب ايلوم). على أن الكسب الأكبر في هذا الموسم هو ألف وستمائة لوحة مسمارية وضعها كتبة القصر. وهي تتضمن أنظمة ومراسلات وقوائم مواد. وقد اكتشفت في قسم الوثائق الرسمية بالقصر فأزاحت الأنقاض عن تسع وستين غرفة من غرفه في الموسم المذكور.



كان موسماً خصباً حقاً، لكنه كان مجرد بداية، ففي موسم عام 1935 عثر على كمية أكبر من اللوحات المسمارية بلغ عددها ثلاثة عشر ألف لوحة. وتم انتشال قطعة أثرية هامة هي ربة الينبوع، وأزيح التراب أول مرة عن رسوم جدارية في القصر الذي بلغ عدد غرفه وباحاته 138، وظهرت في باحتين منه مقبرة آشورية تحتفظ بمحتوياتها من الأثاث الجنائزي.



وتوالت (عطاءات) ماري في المواسم التالية، ففي حفائر عام 1937 عثر على ثمانية آلاف لوحة مسمارية أخرى، وارتفع عدد غرف وباحات القصر المكتشفة فبلغ 220 غرفة وباحة، وقد رفعت عنها الأنقاض، فظهر أسدان برونزيان قد فغرا فميهما فبدوا مرعبين عند أحد مداخل المعبد، وقد برزت بقايا زقورة تغطي كامل الجزء الديني من معبد (داغان) الذي يعود إلى ما قبل عصر سرجون الأكادي، ولم يعرف تركيبها بعد لأن هذا يتطلب إزالة ركام ضخم من الأنقاض.



وعندما اختتم الموسم العشرون للتنقيب في ماري عام 1972 كانت بعثة (بارو) قد أنجزت اكتشاف اكثر من ثلاثمائة غرفة وباحة في القصر الملكي، وقد بلغت مساحة هذا القصر هكتارين ونصف هكتار، واتضح أنه عمارة ضخمة متفوقة من حيث السعة والتخطيط، وله سور شاهق متين يبلغ طوله مائتي متر وعرضه مائة وعشرين متراً، وعلى جانبي بابه الشمالي برجان، وقد بلطت باحاته بالآجر وغرست في بعضها أشجار النخيل.



ويتضمن القصر جناحاً رسمياً فيه قاعات استقبال ومنصات للخطابة ومكتبة للوثائق والمراسلات. وفي القسم الديني من القصر معبد ضخم فيه مذابح مزدانة بالمحاريب ومنصات للقرابين أقيمت على قواعد من الجص. وقد طليت ممارّ المعبد بالقار، ودفنت في الأرض مجموعة من صناديق التأسيس تحوي مسامير برونزية.







وكان الجناح الملكي الخاص في الزاوية الشمالية الغربية من القصر ويضم أكثر من ثلاث وعشرين غرفة، حول باحة داخلية مكشوفة ذات قاعدة جميلة من الجص الأملس، والذي يثير الإعجاب ما تضمنه الجناح من تجهيزات الاستحمام، كالمغاطس والسخانات والمصاطب الملساء، وظهرت في هذا الجناح قاعة استقبال مزخرفة برسوم تبدو فيها سلسلة من الجدائل الزرقاء بينها فواصل بيضاء.



ويتصل بهذا الجناح ما يرجح أنه قاعتان لتعليم الأبناء، فيهما معدات مدرسية وصفوف متوالية من المقاعد المتساوية. وهناك جناح جيد البناء والتصميم لموظفي القصر مزود بالمرافق الصحية من مراحيض وأوعية للمياه ومداخن للتدفئة، كما نجد جناحاً خاصاً بالطبخ فيه مخبز وقوالب خزفية لصنع المعجنات.



وعثر في القصر أيضاً على بعض المدافن الحجرية الضخمة، وذلك في أعماق معبد عشتار، وتتألف جدرانها من بلاطات جصية مسقوفة بكتل ضخمة تغلق مداخلها لمنع وصول اللصوص إلى التحف والأثاث الجنائزي.



ومن أهم أقسام القصر قاعة للاحتفالات يبلغ طولها تسعة وعشرين متراً فرشت أرضها (بعدسة) مصقولة، وطليت جدرانها بالجص الذي أتاح لفناني القصر اتخاذ رسوم كبيرة على الجدران.



وقد ظهرت خلال التنقيب في بعض باحات قصر (زيمري ليم) جدران لقصور ضخمة أخرى أقدم من هذا القصر، وتعود إلى الألف الثالث، ولعلها لا تقل عنه سعة ومكانة وتصميماً، وذلك واضح منذ البداية.



كان قصر ماري الملكي يعتبر في عصره من عجائب الدنيا، وبلغ من شهرته أن أبناء الملوك الآخرين في المنطقة من الفرات إلى البحر الأبيض المتوسط كانوا يتمنون زيارته، وقد عثر على مراسلات بهذا المعنى في اللوحات المسمارية.



إلا أن إزاحة أطباق التراب عن هذه المعالم الرائعة في عصرنا عرضها لخطر داهم هو خطر الأعاصير والجليد، وقد ظهرت آثار عصف الرياح السافية على جدران القصر وقواعده، وقد كانت محفوظة تحت غلاف صفيق من الركام وكانت الأضرار بليغة، ولهذا تنادى المسؤولون في القطر وأصدقاء الآثار في فرنسا لحماية معالم ماري، وأقيمت فعلاً مظلة لدنة (بلاستيكية) واسعة لهذه الغاية، ومن المقرر أن يجري توسيعها أيضاً لحماية أكبر قدر ممكن من الآثار المكتشفة.



ويرى العلماء أن الثروة الكبرى في ماري هي الوثائق التاريخية المكتوبة بالخط المسماري على اللوحات الطينية المجففة، وقد سميت بالسجلات الملكية، ويقارب عددها خمسة وعشرين ألف لوحة ظهرت في قاعتين من قصر (زيمري ليم) بصورة خاصة، أو مرتبة داخل الخزائن الجدارية أو ملقاة صفوفاً على (أرضيات) القصر.







وتولى ترجمة هذا العدد الضخم من النصوص المسمارية فريق فرنسي- بلجيكي برئاسة الأستاذ جورج دوسان، ولا يزال هذا الفريق يتابع مهمته هذه منذ أربعين عاماً نشر خلالها أربعة عشر مجلداً من المعلومات الواردة في النصوص، ويؤكد (بارو) أن هذا العمل سيستمر حتى النهاية مهما تطلب من الوقت لاستثمار (هذا المنجم الثمين) في تجديد تاريخ "الشرق الأدنى القديم" وجغرافيته.



من خلال هذه اللوحات برز عالم حقيقي من الشخصيات يتحرك على مسرح التاريخ بحيوية، ويؤلف مجتمعاً متكاملاً من الفئات القيادية والفعاليات وهياكل الحكم. فنرى الملوك الأكاديين والسومريين والبابليين والآشوريين والحوريين بأسمائهم وألقابهم، وهم يقودون الجيوش ويمارسون الأعمال الحربية والمناورات السياسية، وحولهم عناصر الهرم الأخرى من الكهنة والوكلاء والضباط والمفتشين والسفراء. وعلى دائرة أوسع نجد الأطباء والعرافين والمرتلين والموسيقيين، بل نحن نصل أيضاً إلى النجارين والخبازين وحتى الرعاة في المراسلات التي تتصل بوقائع الحياة اليومية.



وكشفت بعض المراسلات عن (خلفيات) الأوضاع السياسية في المنطقة حيث كان كل حاكم (يناور) للحيلولة دون قيام أحلاف مضادة حوله أو بجواره، أو يسعى لتجميع الأصدقاء أو تأييد بعضهم ضد البعض الآخر، ومراقبة الجميع في الوقت نفسه، أو العمل لتبادل الدعم العسكري والتحري عن الاتفاقات السرية، وكان السفراء يلعبون أدواراً هامة في هذا المجال.



وأشار نص عرضي إلى تشديد نظام ماري على الخدمة العسكرية. فقد تبين أن رجال (مجدي ليم) طافوا على القرويين وهم يحملون رأس رجل تهرب من الخدمة العسكرية. واتضح أن أبشع ألوان الموت كان ينزل بالهارب من هذه الخدمة. ويعكس هذا صرامة السلطة في مكافحة التخلف عن الواجب الدفاعي.



ومن هنا يصح القول إن كتبة اللوحات المسمارية في ماري سجلوا كل شيء، ابتداء من المراسلات السياسية والنشاطات الاجتماعية حتى قوائم المواد الغذائية وحسابات الولائم. وكلما غاص علماء اللغات المسمارية في تلك النصوص تكشفت لهم آفاق جديدة من ذلك العالم الزاخر.



أما الجانب الديني من حياة ماري فهو عالم ثري بالشعائر والأضاحي والقرابين والنذور، وعلى الرغم من نهب معابد ماري وهياكلها نهباً حثيثا فإن قطع التماثيل والمنحوتات والقواقع الصدفية والأوعية تؤلف أجزاء من مشهد مؤثر للتعبد والتقديس والتضحية والورع. وهو جانب هام يزخر بالتفاصيل والملامح النابضة.



لم يتوصل التنقيب الأثري بعد إلى تحديد زمني دقيق لمنشأ (ماري) كتجمع سكاني مدني مأهول، لأن هذا التحديد يتطلب سيراً عميقاً لجانب متسع من سطح تل حريري. ولقد أمكن العثور في عمق يقارب ثمانية أمتار من السطح على قطع خزفية يمكن نسبتها إلى الألف الرابع قبل ميلاد المسيح، أي الحقبة التي يبدأ فيها فجر التاريخ.







والأمر الأكيد أن (ماري) عرفت مرحلة ازدهار وتقدم حضاري في الألف الثالث قبل الميلاد، أي الفترة التي تعارف علماء التاريخ على أنها عصر ما قبل سرجون الأكادي مؤسس السلالة السامية وقائد أولى الامبراطوريات الكبرى في الشرق الأدنى القديم. وقد قامت هذه الدولة العربية المركزية عام 2450 قبل الميلاد.



في تلك المرحلة كان يحكم مملكة ماري ما يسمى بالسلالة العاشرة بعد الطوفان، وهناك كشف بأسماء عدد من ملوك هذه السلالة 136 سنة، وقد عثر على تماثيلهم خلال الحفريات في القصر الملكي وفي أرضيات معابده وهياكله. وهناك قوائم لملوك آخرين حكموا ماري فترات أخرى من سني الألف الثالث قبل الميلاد.



وفي منتصف الألف الثالث قبل الميلاد برز قائد سومري كبير هو (ولكال زاغيزي) ملك أوروك أشهر عواصم ما بين النهرين، وكان والياً على بلدة (أوما) الصغيرة ثم سيطر على أوروك ولاجاش، وتابع حركته بعنف بالغ فاحتل جميع العواصم السومرية وأحكم قبضته عليها ممهداً لقيام دولة عظيمة تمتد من الخليج العربي حتى البحر الأبيض المتوسط.



خلال هذه الانتفاضة السومرية هاجم (لوكال زاغيزي) مملكة ماري بشراسة، وبعد أن هزم قواتها ودمر أسوارها استباح المدينة جميعاً وقام بنهب القصر الملكي والمعابد والهياكل والمساكن وأشعل فيها النيران بتصميم فاتح لا يعرف الرحمة، وقد دلت طبقات الرماد المنتشرة هنا وهناك بكثافة على ضراوة الحريق، كما برهنت بقايا المنحوتات المشوهة والتماثيل المحطمة واللوحات المتصدعة في عشرات الباحات والغرف على مضي المحتلين في التدمير والسحق.



وقد ورد في رقيم من ذلك العصر وصف لإسالة الدماء في معابد ماري وإشعال النيران في هياكلها ونهب الحبوب، واستنزل النص المكتوب اللعنة على آلهة (لوكال زاغيزي)، إلا أن تقرير الفاتح نفسه المنقوش على أوانٍ حجرية منذورة يمجد هذه الأعمال، ويقول إن الإله السومري (اليل) أعطى لوكال زاغيزي السلطة من مطلع الشمس إلى مغيبها فغزا البلاد من البحر الأسفل (الخليج العربي) إلى البحر الأعلى (البحر الأبيض المتوسط) وجعلها تنعم بالأمان والحبور وأصبح كبيراً للكهنة في (أور).



ويعقب الدكتور مورتكات المنقب الأثري والمؤرخ على هذا الحدث بأن عمل (لوكال زاغيزي) من أجل توحيد الدويلات السومرية و(مركزة) الشعب لم يلاق تلبية من السومريين وكهنتهم، وقد كانت التضحية والبذل غريبين عن طبائعهم، إلا أن فكرة توحيد المنطقة وإخضاعها لدولة مركزية كبيرة تحققت على يد شعب آخر هو الشعب الأكادي السامي القادم من الجزيرة العربية والذي استوطن البلاد وتغلغل فيها باتجاهي الجنوب والشمال منذ زمن طويل. ثم أسس ابتداء من سرجون الامبراطورية الأكادية.







وعلى كل حال فإن دمار ماري على يد زاغيزي السومري في نحو عام 2500 قبل الميلاد لم يقض عليها، فقد استعادت وجودها الحي نظراً لحيوية سكانها وموقعها الهام من حيث أنها رأس جسر على الفرات الأوسط يسيطر على الطريق بين الشمال والجنوب محاذياً للنهر، ومحطة للقوافل المسافرة من الصحراء باتجاه البحر الأبيض المتوسط.



وقد استعادت (ماري) حياتها فيما بعد دولة تابعة للامبراطورية الأكادية السامية التي أنشأها القائد الأسطوري سرجون. وتذكر الوثائق أن هذا القائد مر بمدينتي ماري وابلا في طريقه إلى (غابات الأرز وجبال الفضة) أي جبال لبنان أو الأمانوس، كما اتضح أن نارام سين حفيد سرجون كان يعين كبيري الكهنة في ماري.



وقد حافظ سرجون الأكادي على هذه الامبراطورية الأكادية تحت وطأة زحف القبائل العربي حتى البحرين، وتمتد في الاتجاه الآخر- كما قيل- إلى بلاد الشام وجبال لبنان وطوروس.



وفي مطلع الألف الثاني قبل الميلاد تقوضت الامبراطورية الأكادية تحت وطأة القبائل الجبلية المتوحشة المسماة بالجونيين والزاحفة من جبال زاغروس، واستمر هذا الوضع المخلخل حتى أتيحت الفرصة لانبعاث سومري- أكادي.



وفي الحقبة ما بين 1800-1900 قبل الميلاد تلقت منطقة الفرات الأوسط ومنها (ماري) موجات جديدة زاحفة من قلب شبه الجزيرة العربية، وامتلأت بمد من العرب الساميين الشديدي البأس، الراغبين في التوسع، وقد كون هؤلاء قوة عسكرية كبيرة أتاحت لهم السيطرة السياسية على البلاد الممتدة من الفرات الأوسط إلى القطاع الجنوبي من الرافدين، فانطلق (اشبي أرا) من ماري مخترقاً المنطقة حتى احتل أور العاصمة السومرية واستقر في (أي زن) حيث أمسك بزمام الأمور، وبذلك تحققت وحدة الدولة السومرية الأكادية من جديد، وكانت مرحلة ازدهار في (ماري).



وخلال القرن الثامن عشر قبل الميلاد برزت الامبراطورية البابلية على يد (سومولا ايلو) وقبل أواخر هذا القرن أمسك حمورابي البابلي بزمام الأمور وشرع باكتساح المنطقة وتوحيدها، وكانت ماري تراوح في التحالف بين الآشوريين والبابليين. فاكتسحها حمورابي في السنة الثانية والثلاثين من حكمه ثم اكتسحها ثانية في السنة الخامسة والثلاثين، ولكنه كان في هذا بالغ القسوة. فقد أنزل بها دماراً ماحقاً فبدأ بإزالة أسوارها ثم هدمها بالمعاول. وخلال الكارثة قام جنوده بنهب القصور والمعابد والمساكن وأخلوها من الثروات المادية والتماثيل والتحف وحطموا كل ما تعذر حمله.



ويقول بعض المؤرخين إن جميع سكان ماري قتلوا أو أسروا واقتيدوا إلى أماكن أخرى، واختفت سلالة زيمر يليم آخر ملوك ماري، ولم يسمع عن أحد من سلالته يطالب بالعرش، ووصفت بأنها (مدينة محرمة) وأنها هبطت إلى الجحيم.



هذه الكارثة التي حلت بماري عام 1850 قبل الميلاد محتها من الوجود من حيث أنها مدينة مرموقة ذات حضارة أصيلة من حضارات الفرات الأوسط في العالم القديم، ولم تنهض (ماري) بعد هذه الكارثة، بل سادها الصمت المطبق، ولجأ الناجون منها إلى (حانة) على بعد مائة كيلومتر منها.



وفي عام 1650 قبل الميلاد مر بها الحثيون خلال هجومهم الخاطف بزعامة مورشيليس على بابل، ولكنها هبطت إلى مرتبة قرية صغيرة جداً عدة قرون، وعندما مر بها المكدونيون في القرون الأخيرة التي سبقت الميلاد لم تلفت أنظارهم بدليل أنهم أنشؤوا مدينة جديدة على الطراز الهلنستي على بعد يقل عن أربعين كيلومتراً منها على شاطئ الفرات نفسه وهي (دورا أوروبوس) في الصالحية. ولكن ماري لم تخل من الاستيطان السلوقي الذي ترك لنا بعض المنشآت والزخارف.



ولم تستيقظ ماري من سباتها الطويل إلا في الثلث الثاني من القرن العشرين. وذلك على يد المنقبين الأثريين وعلماء اللغات السامية الذين أماطوا اللثام عن تراثها الحضاري الضخم، وألقوا أضواء ساطعة على إنجازاتها السياسية والاجتماعية والفكرية والهندسية، وبذلك أتيح للعالم معرفة دنيا سحرية ترفل بالجهد والإبداع والقدرة، وتضيء مساحة مهمة من مسيرة الإنسان العربي في فجر التاريخ.



والجديد في ماري أن البعثة الفرنسية للتنقيب استأنفت حفائرها في العام الماضي برئاسة السيد بروغران بعد أن تقاعد الأستاذ أندريه بارو بسبب السن. وكان العمل قد توقف في تل حريري منذ ثماني سنوات، وستقوم البعثة بموسمها التالي في أيلول القادم والأمل كبير باكتشاف المزيد من الوثائق والمعالم والعناصر الأثرية.



من المصادر:-



مجلة الحوليات الأثرية العربية السورية.



كتاب تاريخ الشرق الأدنى القديم للدكتور أنطون مورتكات.



كتاب ماري للأستاذ أندريه بارو

محمد مرجى حريري
محمد مرجى حريري
Admin

عدد المساهمات : 23
تاريخ التسجيل : 25/11/2010
العمر : 47
الموقع : https://samiat.rigala.net

https://samiat.rigala.net

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

الرجوع الى أعلى الصفحة


 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى